إجابة.. الرئيس[i]
جريدة الأخبار
18 يوليو 1999
بقلم مهندس: باسل لمعى فى المؤتمر الصحفي الذي عقده الئيس مبارك ورئيس الوزراء
الإسرائيلي باراك عقب مباحثاتهما في الإسكندرية، ومن بين الأسئلة التقليدية التي
تسابق عليها الصحفيون التقليديون لفن انتباهي بشدة سؤال غير تقليدي من مذيع غير
تقليدي. فقد سأل أهارون برنيع المذيع الإسرائيلي الشهير بالقناة
الثانية الناطقة بالعربية الرئيس مبارك سؤالا غير متوقع وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة
ومتحدية.. كان السؤال عن الفرق بين تفاؤل الرئيس الذي أعلنه للتو
عقب لقائه بباراك وعن تفاؤله الذي سبق فأعلنه في مؤتمر صحفي مماثل هقد قبل ثلاث
سنوات ونصف عقب لقائه بنيتانياهو. المذيع الإسرائيلي وصف بنفسه سؤاله وبالحرف الواحد
وبالعامية المصرية التي يجيدها بأنه "لامؤاخذة سؤال محرج شوية".. وإذا
لم تخنني الذاكرة فأظن أن هذا المذيع هو الذي أجرى لقاء تليفزيونيا مع الرئيس
مبارك قبل عدة شهور.. و لا أخفي أنني احتفظت له في ذاكرتي بإعجاب كإعلامي جذاب
وذكي وتمنيت لو أن لدينا إعلاميين متخصصين في الشئون الإسرائيلية في مثل تخصصه في
الشئون المصرية.. *** سؤال برنيع لفت انتباهي لعدة أسباب: أولا: لشخصية سائله غير التقليدية. ثانيا: لطبيعة السؤال.. فالسؤال غير متوقع في المناسبة
التي سئل فيها.. فالعادة أن الأسئلة التي تسئل عقب مباحثات رؤساء الدول تكون في
أحد اتجاهين.. اتجاه معلوماتي مثل ماذا تم وماذا قيل وماذا اتفق عليه إلخ.. واتجاه
استطلاعي مثل ما رأيكم أو ما تقديركم إلخ.. وعليه فإن الرؤساء يخرجون للمؤتمرات
الصحفية والاجابات معدة سلفا في أذهانهم لأن الأسئلة معروفة مسبقا.. وكل ما يشغل
بالهم هو اختيار لهجة الإجابة ومفرداتها حتى تصل إجابتهم للعالم بالدرجة والوضوح
المطلوبين دون لبس أو تأويل. أما أسئلة من نوع سؤال برنيع عن الفرق بين ما قلتموه وما
تقولونه فهو يصلح بالأكثر لحوار صحفي أو لقاء تليفزيوني تكون فيه فرصة للمناقشة
والاستيضاح بعيدا عن تزاحم أسئلة عشرات المراسلين. -
- - و الأهم أن تكون هناك قبله فرصة للتفكير وترتيب الأوراق
وإعداد الذهن.. فالسؤال لم يكن في مكانه وفي تقديري أن تأثر السيد برنيع بعمله
التليفزيوني غلب عليه.. السؤال لفت انتباهي ثالثا لأن به تلميحات لا تخفى مثل: -
هل أنتم دائما متفائلون دون الاستناد لحقائق عملية؟ -
ألم تتعلموا من الماضي أن التفاؤل مع قادة إسرائيل ينتهي دائما بخيبة أمل؟ كل هذا
التحليل للسؤال دار في ذهني بشكل لحظي وأمام ابتسامة السيد برنيع المتحدية وجدت
نفسي متحفزا مثل مشجعي الكرة وقلوبهم مع حارسي مرماهم وهو يتصدى لركلة جزاء. فالسؤال مفاجئ وفي غير مكانه ومحرج على حد تعبير صاحبه..
وأى إحراج للرئيس المصري يمس كل مصري. و إذا لم تتم الإجابة على السؤال فورا وبحسم ووضوح فإن
التلميحات المتعلقة به ستظل مسجلة علينا. *** و بابتسامة بها بعض الاستياء وكثير من الهدوء استقبل
الرئيس مبارك السؤال.. وكانت الإجابة.. قال الرئيس إن السؤال "قد يبدو معقدا ولكنه ليس
كذلك.. لقد تفاءلت بعد لقائي بنيتانياهو لأنني "لم أكن أعرفه".. والرجل
قدم ساعتها وعودا جيدة.. فهل أكذب رئيس وزرائكم؟.. أما الآن فأنا متفائل لأنني
أعرف باراك من قبل منذ كان يعمل مع رابين وبيريز.. بصراحة.. برافو يا ريس وعشرة على عشرة.. لقد أجبت على ما قيل وما لم يقل بإجابة قصيرة وواضحة
وهادئة وساخرة بالمقابل وبدون إعداد مسبق.. سجلت على نيتانياهو أنه وعد وسجلت لنفسك أنك تصدق وعود
الرجال إلى أن يثبت العكس.. وسجلت على الصحفي الإسرائيلي أن هناك من هو أولى
بسخريته.. و الأهم أنك حملت باراك مسئولية السلام كخط سياسي انتهجه
وشارك فيه مع رابين وبيريز.. فقد سمع الإجابة ورضى بها وابتسم وسجلت الكاميرات ذلك.. الرئيس لخص إجابته في نهايتها بجملة قصيرة تلفت انتباه
كاتب تروق له الحرفنة اللفظية مثلي.. قال الرئيس: الفرق هنا أنني أعرف باراك ولم أكن أعرف نيتانياهو.. *** حلوة قوي يا ريس.. ومثلما كان السؤال به ما قيل وما لم
يقل فالإجابة كذلك.. وكان متوقعا هنا أن تنقلب ابتسامة أهارون برنيع من ابتسامة
تحد إلى ابتسامة حفظ ماء الوجه وهو يعلق: قصدت أن أسأل حتى لا تتكرر خيبة الأمل. و حتى لا تتكرر خيبة الأمل يا أستاذ أهارون فقد وضع
الرئيس مبارك الكرة في ملعب رئيس الوزراء باراك الذي شارك رابين وبيريز في بداية
تحول جاد نحو السلام في السياسة الإسرائيلية.. والأمل أن يكون سلاما حقيقيا يريح
هذه المنطقة المنهكة. فإن تكررت خيبة الأمل فالخائب هنا هو من يتراجع وليس من
يتفاءل. أعجبني سؤالك "إعلاميا" يا استاذ أهارون رغم
أنه ليس في مكانه. و أعجبني أكثر
إجابة رئيس بلدي "إعلاميا ووطنيا".. و"جود لك" يا ريس.. إجابة
في مكانها وفي وقتها دفعتني لكتابة المقال فورا بعد انتهاء وقائع المؤتمر وإن كنت
قد سلمت المقال متأخرا لملازمتي سرير المرض. [i] المقال
لعله أطرف وأدق وأخطر ما كتبت: طريف القصد ودقيق الأسلوب وخطير المقاربة.. أما
القصد فكان مرحاً لكي أعطي درساً للمنافقين ملقنا لهم أنه لا حاجة للنفاق وقلة
القيمة حتى مع رغبتهم العارمة فى التسابق فى عمل المداحين، إذ لا يشترط المدح قلة
القيمة، ويمكنه مع بعض العناية أن يكون حافظاً لقيمة صاحبه بل ومعلياً منها فوق من
يمتدحه هكذا: أنيسبق المدح انتقاء موضوعاً يستوجبه، وأن يُصاغ بلغة تجعل من المادح
فى مقام الحكم الأعلى من الممدوح، وأن يحتفظ المدح بأبواب النقد العائب حين يلزم..
ويحتاج
الأسلوب لكثير من العناية أُحيل القارئ المتابع لمتن المقال للتعرّف على مدى توفيق
المقال فيها.. وأخيراً
فإن خطورة مقاربته تظهر في وضعي للرئيس موضع من لا يطمئن الواحد من حيث المبدأ
لحسن إجابته حتى متى أحسنها كانت مفاجأة.. طالما
اشمئززتُ من أولئك المدّاحين المنافقين وطالما وضع مشرف الصفحة الصحافيّ الكبير
مقالاتهم تحت مقالاتي، وطالما انتظرت فرصة لكي ألقنهم هذا الدرس، وطال انتظارى
لطول غياب ما يستحق المديح من أعمال الرئيس وقتها، إذ أن الفرصة التي انتظرتُها هي
توفّر موضوع يستحق المديح بحق وفي نفس الوقت يفتح باب بقية شروط الاحتفاظ بحق
النقد القادح، حتى أتت الفرصة موضوع المقال، فكان هذا المقال.. ولقد
تأخّر عرض المقال قليلاً، وبحسب المعلوم لدى المتداخلين في حال النشر فى الجرائد
القوميّة فإن أى مقال عن الرئيس يذهب للمراجعة فى المكتب الإعلامى فى الرئاسة..
ورغم كل شئ تم نشر المقال.. وعلى
كل حال انتهزت اول فرصة لوأد أية فرصة لأى غبى يفهم من المقال قصد النفاق لكى أقدم
النقد الرافض الواضح، ولم يطل انتظار الفرصة هذه المرة إذ تمت إقالة رئيس الوزراء
لدوافع تخلو من النزاهة وبطريقة مهينة وبغير تقديم شكر رسمى له، وتم منع أى كلمة
لمدح رئيس الوزراء المُقال فكان مقالى الشكر..
قبل التهنئة هو عجبة كل الجرائد وقتها إذ هو الوحيد من نوعه
فى كل جرائد البلد الذى ذكر اسم رئيس الوزراء المُقال أصلاً فضلاً عن شكره وتعديد
مزاياه، وصدّره مشرف الصفحة ببراعة وحنكة صحفية.. يبقى
الإشارة لحق الصحافى الكبير عبد الوارث الدسوقى المشرف على الصفحة وعلى غيرها فى
العدد اليومى، إذ خفّف العنوان من "إجابة.. الرئيس المصرى" إلى
"إجابة.. الرئيس" لاعتبارات قدّرها فى أثر العنوان على من قد يقلقهم
المقال.. |