بقلم:
باسل
لمعى المطيعى[i]
أعتذر بداية لمقدار الصراحة التي سأكتب بها في موضوع حساس هو حقوق الإنسان
في مصر.. فلقد أثبتت تجربتنا المريرة مع الإعلام الغربي أن عدم صراحتنا مع أنفسنا
هى سبب افتراء البعض علينا، وهي أيضا سبب تصديق البعض الآخر لما يقوله البعض
الأول..
قصة حقوق الإنسان في مصر تتلخص في الحقائق التالية:
1- مثل بلاد
كثيرة في العالم فإن مصر يحدث بها انتهاكات لحقوق الإنسان.. انتهاكات تقل عما يحدث
في بعض الدول وتزيد على دول أخرى ولكنها تحدث على كل حال..
2- مصر بها
قوانين واقعية جدا بشأن حقوق الإنسان تصل لدرجة اعتبار التعذيب جريمة لا تسقط
بالتقادم.
3- للأسف فإن
تطبيق هذه القوانين لا يرقى إطلاقا لسمو مضمونها.. (معلش إحنا اتفقنا على
الصراحة).. فالواقع يقول أن إساءة استغلال النفوذ أصبح سلوكا طبيعيا لدرجة أنه
أصبح مقبولا من ضحاياه مثل مرتكبيه..
4- تتراوح صور
انتهاك حقوق الإنسان من الحرمان من بعض الحقوق الوظيفية وتصل لدرجة الاعتداء
البدني لانتزاع اعترافات وما أشبه مرورا بتطبيق عقوبات بطرق مخالفة للقانون من بعض
الرؤساء ضد مرؤسيهم.. تحدث الانتهاكات بدءا من المدارس وصولا لأقسام الشرطة مرورا
بمواقع كثيرة يحتلها من يحتمي في منصبه لإيذاء غيره.
5- أسوأ ما في
الأمر أن البعض استمرأ هذا والبعض استسلم له حتى صار في الشارع المصري شبه عرف أن
من يشكو انتهاكا وقع ضده هو مذنب في حق من يشكوه ومعرض بالتالي لتكرار انتهاك
حقوقه حتى يصير عبة لمن تسول له نفسه الثورة ضد أعراف المجتمع المستقرة.. يا
للعار..
6- مصر بلد محوري
لا يمكن للآخرين تجاهل ما يحدث به ولذلك فلا ينبغى أن نعزو اهتمام الإعلام الغربي
بما يحدث عندنا لنظرية المؤامرة وحدها.. بل إنني أميل أكثر لتفسير الحملات
الإعلامية الغربية الساخنة ضد مصر بأن هذا هو دأب بعض الإعلاميين الذين يميلون
لتحقيق مكاسب جماهيرية سريعة.. ومثلما هو الحال مع المؤسسات الإعلامية الغربية
فالسياسيون هناك أيضا هدفهم هو كسب الجماهيرية لأن الصون الانتخابي هناك غال جدا..
لذلك فلا عجب من استغلالهم لورقة حقوق الإنسان في بلد بارز مثل مصر لا سيما أن
عقلية ومشاعر الجماهير الغربية مفتتنة بحقوق الإنسان ويسهل إثارتها باللعب على هذه
النغمة.
7- حقيقة مؤلمة
أخرى: تحتاج المؤسسات الإعلامية والسياسية في الغرب لمصارد تستند إلى تقاريرها فهم
يفضلون هذه الطريقة على طريقتنا نحن في إرسال الكلام على عواهنه (هو حد عندنا يقدر
يسأل على مصادر).. ولأن كل شئ بثمنه فإن مصادر التقرير ستقبض "شئ وشويات"
كلما أرسلت تقارير ساخنة وطازجة.. ولأن في مصر ناس شاطرة فإن ما يسنى بجمعيات حقوق
الإنسان أو منظمات الدراسات الاجتماعية أو ما أشبه نمت وانتشرت حتى غطت تماما
احتياجات السوق.. ونجح سوق تقارير حقوق الإنسان المصري في موازنة العرض مع الطلب
بتعبير اقتصاديي الرأسمالية.. وكله باسم حقوق الإنسان وكله باسم العلم والدراسات
العلمية.. وكله مكسب.. يا خسارة..
8- ولأن
الجهات الرسمية لدينا تهوى كتمان الحقيقة كما هى إيمانا بمبدأ "داري على
خيبتك تقيد" فإن المنتفعين يجدونها فرصة في إعلان الحقائق ولكنها ليست كما هى
وإنما بعد إضافة التوش والتحابيش التي تعجب "الموزع الخارجي" الذي هو
أدرى بذوق الجمهور عنده.. ثم تجد الجهات الرسمية نفسها مضطرة للرد فتتردد قبل أن
ترد ردودا هى بمثابة أعذار أقبح من ذنوب..
خذ عندك مثلا ما قيل مؤخرا في قصة الكشح: (غير صحيح على
الإطلاق أن الشرطة في تضطهد الأقباط وتصلبهم.. كل ما حدث هو تجاوزات من الشرطة في
حق المواطنين دون تفرقة بين مسلم وقبطي).
يا للعار.. يتهموننا بانتهاك حقوق الأقباط فنرد بأننا
ننتهك حقوق جميع المصريين مسلمين وأقباطا.
يتهموننا بصلب المواطنين فنرد بأننا نكتفي بضربهم علق
ساخنة فقط!!
بالمناسبة أتصور أن حكاية الصلب هذه أصلها الطريقة
الشهيرة في انتزاع الاعترافات بتعليق الضحايا على الأبواب[ii].. وبالطبع لا يفوت كتاب التقارير الشطار التعبير عن هذا
الوضع بكلمة "صلب" بدلا من "تعليق" لما في هذه الكلمة من
إثارة للمشاعر الدينية وإطلاق العنان لتخيل ما لم يحدث وإذا تم توجيه اللوم لكاتب
التقرير فإنه يدخل مع لائميه في مناقشة لغوية عقيمة عن صحة استخدامه للكلمة طبقا
لمختار الصحاح.
***
هذه هى قصة حقوق الإنسان المصري بمنتهى الموضوعية.. واستخلص منها من وجهة
نظري الآتي:
أولا: الصراحة في البداية خير من الصراحة في النهاية وبعد خراب مالطة..
ثانيا: هذه الصراحة ينبغي أن تكون تامة فاستخدام كلمة "تجاوزات"
لا يشفي غليل أحد.. فهذه التجاوزات وصلت إلى حد إزهاق روح في بلقاس مثلا.. كما أن
استخدام كلمة "تحريك" للإشارة إلى عقوبة المخطئين لا يشبع شهوة المجتمع
في الاطمئنان لتحقيق العدالة.. فمثل هذه القضايا ينبغي عرضها على القضاء وعرض
تفاصيل التحقيق أولا بأول.
ثالثا: الحكومة هى أول المتضررين من منتهكي حقوق الإنسان
مثلما هى متضررة من كتاب التقارير.. وحتى تكشف الأولين وتسحب البساط من تحت أقدام
الآخرين أقترح أن تؤسس الحكومة نفسها مجلسا أعلى لحقوق الإنسان المصري[iii].. وهو الاقتراح الذي أعد القارئ بأن أناقشه بالتفصيل في
مقال قادم.. هذا إذا لم ينتهك أحدهم حقوقي في إبداء رأيي.
[i] تفصيل
المعركة المتأرجحة بشأن صيغة
التوقيع بينى وبين الصحافى الكبير عبد الوارث الدسوقى مشرف الصفحة ..
[ii] فيما بعد انتشر كلام ممن كانوا قريبين من
الجريمة تفيد أن الشرطة وقتها استعملت صلباناً لا أبواباً في شوارع القرية وغنما
انا كتبت فى ضوء إعتام تام وقتها كما هو مفهوم وكتبت كل ما يمكن كتابته لأقصى
السقف المتاح فنياً وتأثيرياً، بتحسّب ألا ينقص من الكلام مطلباً لازماً تحت أقصى
ما يمكن أن تكون جريمة التعذيب قد بلغت إليه!!
[iii] هذه واحدة من المطالب السابقة على زمانها وقد تحققت بعدا
بسنوات بالفعل.. على أن مجلس حقوق الإنسان الى طالبت به كان بتوصيفه "مجلس
اعلى" بينما ما أنشأته الحكومة كان
بتسمية "مجلس قومى"، وليس الاختلاف شكلياً، فالمجلس الأعلى له قوة
تنفيذية بينما المجلس القومى له صفة شرفية وتوصويّة (من تقديم التوصيات)، ومفهوم
الفرق لدى الفاهمين، ولكن على كل حال فالمطلب غير مسبوق قبل هذا المقال، وما تم
كان بإلهام هذا المقال من حيث ان الفكرة والتسمية ظهرت أول ما ظهرت في التاريخ في
هذا المقال!!!! ولتميز الاقتراح وجدته وحظيانه بلتحقيق فقد أضفت لعرضه فى هذه
الورقة الفونت الغليظ والخط السفلى..